فصل: مذهب الإمام الباقلاني وابن خلدون في إن الرسم اجتهادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.مذهب الإمام الباقلاني وابن خلدون في إن الرسم اجتهادي:

الرأي الثاني إن رسم المصحف اصطلاحي لا توقيفي، وممن ذهب إلى هذا ابن خلدون في مقدمته والقاضي أبو بكر الباقلاني في الانتصار حيث قالا: إن رسم المصحف كان باصطلاح من الصحابة، لأنهم كانوا حديثي عهد بالكتابة وإليك ما قاله القاضي أبو بكر: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب، ولا مفهومه، أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية؛ بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته؛ ولذلك اختلفت خطوط المصاحف. فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص؛ لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألف، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة وأن الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به، على أي صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك وقد نوقش هذا المذهب بما يأتي:
1- بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد القول بالتوقيف وقد مرت بك عن كثب.
2- ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة إلخ مردود بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية: ألق الدواة، وحرف القلم... الحديث وبما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الكاتبين على ما كتبوا والتقرير أحد أنواع السنة.
3- ما ذكره من قوله: ولذلك اختلفت خطوط المصاحف... إلخ، غير مسلم لقيام الإجماع على الرسم العثماني، وعد وجود المخالف وتتابع الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم على ما جاء في هذه المصاحف عن غير نكير له.
4- أما ما ذكره ابن خلدون من أن العرب كانوا مغرقين في البداوة.
فنقول: إنهم بعد الإسلام قد خطوا في الحضارة العلمية والكتابية خطوات ملموسة، وذلك لما بينا من أن الإسلام دين العلم والمعرفة، وأنه دعا إلى إزالة الأمية من أول يوم، وأما متابعة من جاء بعد الصحابة لهم في رسم المصحف، تبركا بهم، فلم يكن التبرك هو المعول عليه في هذا العصر، وإنما كان ديدنهم ما وافق الحق والصواب قبلوه، وما خالف الحق والصواب نبذوه، وأما أن الصحابة لم يكونوا على درجة من إتقان الخط فمردود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار كتاب القرآن من الحذاق بالكتابة، ومنهم من كان يعرفها في الجاهلية، ثم جاء الإسلام، فزاده حذقا ومعرفة بها، وقد مرت مثل مما التزموه في الكتابة يدل دلالة أكيدة على أن هذا أمر كان مقصودا لهم، وأنهم كانوا على درجة من الحذق بالهجاء والكتابة.

.رأي صاحب الذهب الإبريز:

ولعل مما يستحسن ذكره في هذا المقام لنفاسته وكفايته في الرد على القائلين بالاجتهاد ما ذكره العلامة ابن المبارك، نقلا عن شيخه العارف بالله الشيخ عبد العزيز الدباغ، إذ يقول في كتابه: الذهب الإبريز ما نصه:
رسم القرآن سر من أسرار الله المشاهدة، وكمال الرفعة، قال ابن المبارك فقلت له: هل رسم الواو في سأوريكم، وأولئك، وأولاء، وأولات، وكالياء في نحو (هديهم)، (ملإيه) و(ملإيهم)، و(بأييكم) هذا كله صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة. فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخصوا في أمر الرسم، وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية، وإنما صدر ذلك من الصحابة؛ لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا فكتبوا على وفق منطقهم، ينطقون فيه بالألف وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم، وتقليد لهم حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه؛ فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك.
فقال: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز. وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في (مائة) دون (فئة) وإلى سر زيادة الباء في (بأييد) و(بأييكم) أم كيف تتوصل إلى زيادة الألف في (سعوا) بالحج ونقصانها في (سعو) بسبإ وإلى سر زيادتها في (عتوا) حيث كان، ونقصانها من (عتو) في الفرقان، وإلى سر زيادتها في (آمنوا) وإسقاطها من باءو وفاءو بالبقرة وجاءو في سورتي يوسف والنمل، وتبوءو في سورة الحشر، وإلى سر زيادتها في {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي} ونقصانها من أن يعفوا عنهم في النساء؛ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من (قرءنا) بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع؛ وإثبات الألف بعد واو (سماوات) في فصلت وحذفها من غيرها؛ وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال؛ وإثبات الألف في (سراجا) حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان؛ وكيف نتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت عن الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور، فإن لها أسرارا عظيمة، ومعاني كثيرة، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يدركون شيئا من المعاني التي أشير إليها، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا حرفا.
وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور فلا يخفى ما في كلامه من البطلان؛ لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه، وحينئذ فلا يخلوا ما اصطلح عليه الصحابة، إما أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها، فإن كان عينها بطل الاصطلاح؛ لأن سبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي في ذلك وتوجب الاتباع، وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على هيئة كهيئة الرسم القياسي مثلا، والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى فلا يصح ذلك لوجهين:
أحدهما: نسبة الصحابة إلى المخالفة، وذلك محال.
ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه، وما بين الدفتين كلام الله عز وجل؛ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلا، ولم يزد الألف في {مِائَةَ} ولا في {ولا أوضعوا} ولا الياء {بأييد} ونحو ذلك، والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم- وحاشاهم من ذلك- تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله، ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين، لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة، أو زائدة، على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما عنده، وأنها ليست بوحي، ولا من عند الله، ولا نعلمها بعينها، شككنا في الجميع، ولئن جوزنا للصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصحابي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما، وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية، ثم قال ابن المبارك بعد كلام: فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن، فلم لم ينقل تواترا حتى ترتفع عنه الريبة، وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن فإنه ما من حرف إلا وقد نقل متواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب، وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه، وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه، قلت: وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا ورسما؛ فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه، ولم يضيعوا منها شعرة واحدة، وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر، وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر، واختلافهم في بعض الحروف في الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة له كما لا يضر جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه.
الرأي الثالث وهو أنه يجوز كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة، ليكون أبعد عن اللبس والخلط في القرآن، ولكن يجب في الوقت ذاته المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار الإسلامية النفيسة الموروثة عن السلف الصالح، فلا يهمل مراعاة للجاهلين بل يجب أن يبقى في أيدي العلماء العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام ابن عبد السلام، وتابعه صاحب البرهان.
قال صاحب التبيان: وأما كتابته- أي المصحف- على ما أحدث الناس من الهجاء، فقد جرى عليها أهل المشرق بناء على كونها أبعد من اللبس، وتحاماها أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك، وقد سئل: هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى قال في البرهان: قلت: وهذا كان في الصدر الأول والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على المرسوم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى درس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة.
وهذا الرأي وسط بين المذهبين السالفين، ويقوم على رعاية الاحتياط للقرآن وتنزيه ساحته عن التغيير والتبديل بالإبقاء على الرسم العثماني الذي هو الأصل، وعلى رعاية التسهيل والتخفيف على العامة والناشئة، بكتابته على حسب ما يتيسر لهم ويتسهل عليهم، ولعله الأولى بالقبول.